الآية رقم (27 : 33)
{ فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا . يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا . فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا . قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا . وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا . وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا . والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا }
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، ولا تكلم أحداً من البشر، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها، فسلمت لأمر اللّه عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً، وقالوا {يا مريم لقد جئت شيئا فريا} أي أمراً عظيماً، {يا أخت هارون} أي يا شبيهة هارون في العبادة، {ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي: قيل لها {يا أخت هارون} أي أخي موسى وكانت من نسله، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضري: يا أخا مضر، وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه
هارون قال السهيلي: هارون رجل من عباد بني إسرائيل المجتهدين كانت مريم تشبه به في اجتهادها، ليس بهارون أخي موسى بن عمران، فإن بينهما من الدهر الطويل والقرون الماضية والأمم الخالية ما قد عرفه الناس ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة. وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم. كما قال الإمام أحمد، عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرأون {يا أخت هارون} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: (ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم) "وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب".
وقال ابن جرير، عن قتادة قوله {يا أخت هارون} الآية قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته، وليس بهارون أخي موسى، ولكنه هارون آخر، قال وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل. وقوله: {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية، وقد كانت يومها هذا صائمة صامتة، فأحالت الكلام عليه، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه، فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم {كيف نكلم من كان في المهد صبيا}؟ قال السدي: لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره، كيف يتكلم؟ {قال: إني عبد اللّه} أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه، وقوله: {آتاني الكتاب وجعلني نبيا} تبرئة لأمّه مما نسبت إليه من الفاحشة، قال نوف البكالي: لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه، فنزع الثدي من فمه، واتكأ على جنبه الأيسر وقال: {إني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيا - إلى قوله - ما دمت حيا}.
وقوله تعالى: {وجعلني مباركا أين ما كنت}، قال مجاهد: وجعلني معلماً للخير، وفي رواية عنه: نفاعاً، وقوله: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا} كقوله تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}. وقوله: {وبرا بوالدتي} أي وأمرني ببر والدتي، ذكره بعد طاعة ربه لأن اللّه تعالى كثيراً ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين، كما قال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير}، وقوله: {ولم يجعلني جبارا شقيا} أي ولم يجعلني جباراً مستكبراً عن عبادته وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك، قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب، وقال بعض السلف: لا تجد أحداً عاقاً لوالديه إلا وجدته جباراً شقياً، ثم قرأ: {وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا}. وقوله: {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} إثبات منه لعبوديته للّه عزّ وجلّ، وأنه مخلوق من خلق اللّه يحيا ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد، صلوات اللّه وسلامه عليه.
الآية رقم (34 : 37)
{ ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون . ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم }
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات اللّه وسلامه عليه: ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام {قول الحق الذي فيه يمترون} أي يختلف المبطلون والمحققون ممن آمن به وكفر به، ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة، فقال: {ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه} أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون}، أي إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به، فيصير كما يشاء كما قال: {إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}، وقوله: {وإن اللّه ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن اللّه ربه وربهم، وأمرهم بعبادته فقال {فاعبدوه هذا صراط مستقيم} أي هذا الذي جئتكم به عن اللّه صراط مستقيم أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى، وقوله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله، وأنه عبده ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن اللّه، على أنه ولد زنية، وقالوا: كلامه هذا سحر، وقالت طائفة أخرى: إنما تكلم اللّه، وقال آخرون: بل هو ابن اللّه وقال آخرون: ثالث ثلاثة، وقال آخرون: بل هو عبد اللّه ورسوله، وهذا هو قول الحق الذي أرشد إليه المؤمنين، وقد روي نحو هذا عن ابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبيعن أسقفاً، فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافاً متبانياً جداً، فقالت كل شرذمة فيه قولاً، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك، وكان فيلسوفاً، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم، فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة، وحرفوا دين المسيح وغيروه، فابتنى لهم حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها، بلاد الشام والجزيرة والروم، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة، وقوله: {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} تهديد ووعيد شديد لمن كذب على اللّه وافترى، وزعم أن له ولداً، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة، وأجّلهم حلماً فإنه الذي لا يعجّل على من عصاه، كما جاء في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم) وقد قال تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليَّ المصير}، وقال تعالى: {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار}، ولهذا قال ههنا {فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} أي يوم القيامة. وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق؛ أدخله اللّه الجنة على ما كان من العمل).
الآية رقم (38 : 40)
{ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين . وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون . إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون }
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة: {أسمع بهم وأبصر} أي ما أسمعهم وأبصرهم {يوم يأتوننا} يعني يوم القيامة، {لكن الظالمون اليوم} أي في الدينا {في ضلال مبين} أي: لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك، ثم قال تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة} أي أنذر الخلائق يوم الحسرة {إذ قضي الأمر}: أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار، وصار كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه، {وهم} أي اليوم {في غفلة} عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة {وهم لا يؤمنون} أي: لا يصدقون به. عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون ويقولون، نعم هذا الموت، قال: فيقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال، فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، قال فيؤمر به فيذبح، قال، ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت( ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون}، وأشار بيده ثم قال: (أهل الدنيا في غفلة الدنيا) "رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري واللفظ له وأخرجه الشيخان عن ابن عمر ولفظهما قريب من ذلك".
وقال السُّدي، عن ابن مسعود في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر} قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا، فلا يبقى أحد في أهل عليين، ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه، ثم ينادي مناد: يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدينا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا نظر إليه، ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى: يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحدا ميتاً من فرح ماتوا، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا، فذلك قوله تعالى: {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر}: يقول إذا ذبح الموت "رواه ابن أبي حاتم في تفسيره". وقال ابن عباس: {يوم الحسرة} من أسماء يوم القيامة، عظَّمه اللّه وحذره عباده، وقال عبد الرحمن بن زيد، في قوله: {وأنذرهم يوم الحسرة} قال يوم القيامة، وقرأ: {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله}، وقوله: {إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون} يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس، ولا أحد يدعى ملكاً ولا تصرفاً، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم، الحاكم فيهم، فلا تظلم نفس شيئاً ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.
الآية رقم (41 : 45)
{ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا . يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا . يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا . يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا }
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى اللّه عليه وسلم: {واذكر في الكتاب إبراهيم} أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام، خبر إبراهيم خليل الرحمن، وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام، فقال: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً، {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك} يقول: وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك، لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من اللّه على ما تعلمه أنت، ولا اطلعت عليه ولا جاءك {فاتبعني أهدك صراطا سويا} أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب، والنجاة من المرهوب، {يا أبت لا تعبد الشيطان} أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا يني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}، وقوله: {إن الشيطان كان للرحمن عصيا} أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه، فطرده وأبعده، فلا تتبعه {يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن}: أي على شركك وعصيانك لما آمرك به {فتكون للشيطان وليا} يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلا إبليس، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك، كما قال تعالى: {فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم}.
الآية رقم (46 : 48)
{ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا . قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا . وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا }
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم}؟ يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فاتنه عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك، وهو قوله: {لأرجمنك}، قاله ابن عباس وقاله أيضاُ السدي وابن جريج والضحّاك وغيرهم ، وقوله: {واهجرني مليا} قال مجاهد: يعني دهراً، وقال الحسن البصري: زماناً طويلاً، وقال السدي {واهجرني مليا} قال: أبداً. وقال ابن عباس {واهجرني مليا} قال: سوياً سالماً، قبل أن تصيبك مني عقوبة وكذا قال الضحّاك وقتادة وأبو مالك، واختاره ابن جرير ، فعندها قال إبراهيم لأبيه {سلام عليك}، كما قال تعالى في صفة المؤمنين: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، وقال تعالى: {سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين}، ومعنى قول إبراهيم لأبيه {سلام عليك} يعني: أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة {سأستغفر لك ربي}، ولكن سأسأل اللّه فيك أن يهديك ويغفر ذنبك، {إنه كان بي حفيا} قال ابن عباس وغيره: لطيفاً، أي في أن هداني لعبادته. وقال قتادة ومجاهد {إنه كان بي حفيا} قالا: عوده الإجابة، وقال السدي: الحفي الذي يهتم بأمره، وقد استغفر إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله: {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، حتى أنزل اللّه: {قد كانت لكم أسوة في إبراهيم والذين معه إذا قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون اللّه - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من اللّه من شيء} الآية، يعني إلا في هذا القول فلا تتأسوا به، ثم بيَّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو للّه تبراً منه إن
إبراهيم لأواه حليم}
، وقوله: {وأعتزلكم وما تدعون من دون اللّه وأدعو ربي} أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون اللّه، {وأدعو ربي} أي وأعبد ربي وحده لا شريك له، {عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا} وعسى هذه موجبة لا محالة، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى اللّه عليه وسلم.
الآية رقم (49 : 50)
{ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا . ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا }
يقول تعالى: فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في اللّه، أبدله اللّه من هو خير منهم، ووهب له إسحاق ويعقوب، يعني ابنه وابن إسحاق، كما قال في الآية الأخرى: {ويعقوب نافلة}، وقال: {ومن وراء إسحاق يعقوب}، ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب، أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء، أقر اللّه بهم عينه في حياته، ولهذا قال: {وكلا جعلنا نبيا} فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبئ في حياة إبراهيم، لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف، فإنه نبي أيضاً. وقوله: {ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا}، قال ابن عباس: يعني الثناء الحسن، وقال ابن جرير: إنما قال {عليا} لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم، صلوات اللّه
وسلامه عليهم أجمعين.
الآية رقم (51 : 53)
{ واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا . وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا . ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا }
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه، عطف بذكر الكليم فقال: {واذكر في الكتاب موسى
إنه كان مخلصا} بكسر اللام من الإخلاص في العبادة، وقرأ الآخرون بفتحها، بمعنى أنه كان مصطفى، كما قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس}، {وكان رسولا نبيا} جمع اللّه له بين الوصفين، فإنه كان من المرسلين الكبار، أولي العزم الخمسة، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين، وقوله: {وناديناه من جانب الطور} أي الجانب {الأيمن} من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه، غربيه عند شاطئ الوادي، فكلمه اللّه تعالى وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير، عن ابن عباس {وقربناه نجيا} قال: أدني حتى سمع صريف القلم. وقال السدي {وقربناه نجيا} قال: أدخل في السماء فكلم، وعن مجاهد نحوه، وروى ابن أبي حاتم، عن عمرو بن معد يكرب قال: لما قرب اللّه موسى نجياً بطور سيناء قال: يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة تعين على الخير، فلم أخزن عنك من الخير شيئاً، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً، وقوله: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً، كما قال في الآية الأخرى: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون}، وقال: {قد أوتيت سؤلك يا موسى}، ولهذا قال بعض السلف: ما شفع أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً، قال اللّه تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا}، قال ابن عباس: كان هارون أكبر من موسى، ولكن أراد وهب نبوته له "أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم".
الآية رقم (54 : 55)
{ واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا . وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا }
هذا ثناء من اللّه تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج لم يعد ربه عدة إلا أنجزها، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها، ووفاها حقها. وقال ابن جرير، عن سهل بن عقيل، إن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه، فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل، وبات حتى جاء الرجل من الغد، فقال: ما برحت من ههنا؟ قال: لا، قال: إني نسيت، قال: لم أكن لأبرح حتى تأتيني، فلذلك {كان صادق الوعد}، وقد روى أبو داود في سننه، عن عبد اللّه بن أبي الحمساء قال: بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليَّ بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك، قال فنسيت يومي والغد، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك، فقال لي: (يا فتى لقد شققت عليّ أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك)، وقال بعضهم: إنما قيل له {صادق الوعد} لأنه قال لأبيه {ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين} فصدق في ذلك، فصدقُ الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خلفه من الصفات الذميمة، قال اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) "الحديث أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة"، ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين، ولهذا أثنى اللّه على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد، وكذلك كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صادق الوعد أيضاً، لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: (حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي).
وقوله تعالى: {وكان رسولا نبيا} في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) وذكر تمام الحديث، فدل
على صحة ما قلناه، وقوله: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}، هذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة، حيث كان صابراً على طاعة ربه عزّ وجلّ، آمراً بها لأهله، كما قال تعالى لرسوله: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} الآية. وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (رحم اللّه رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، رحم اللّه امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء) "أخرجه أبو داود وابن ماجه". وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين اللّه كثيراً والذكرات) "رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه واللفظ له".
الآية رقم (56 : 57)
{ واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا . ورفعناه مكانا عليا }
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه، بأنه كان صدِّيقاً نبياً، وأن اللّه رفعه مكاناً علياً. وقد تقدم في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرَّ به في ليلة الإسراء، وهو في السماء الرابعة. وعن ابن عباس: أن إدريس كان خياطاً فكان لا يغرز إبرة إلا قال سبحان اللّه، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملاً منه، وقال مجاهد في قوله {ورفعناه مكانا عليا} قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. وقال سفيان، عن مجاهد {ورفعناه مكانا عليا} قال: السماء الرابعة، وقال الحسن وغيره في قوله {ورفعناه مكانا عليا} قال: الجنة.
الآية رقم (58)
{ أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا }
يقول تعالى: هؤلاء النبيون، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط، بل جنس الأنبياء عليهم السلام، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس، {الذين أنعم اللّه عليهم من النبيين من ذرية آدم} الآية. قال السدي وابن جرير رحمه اللّه: فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس ، والذي عنى به ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم ، والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم ، قال ابن جرير: ولذلك فرق أنسابهم، وإن كان يجمع جميعهم آدم، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة، وهو إدريس، فإنه جد نوح، قلت : هذا هو الأظهر، أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام، وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرئيل، أخذاً من حديث الإسراء، حيث قال في سلامه على النبي صلى اللّه عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ولم يقل والولد الصالح، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام، وفي صحيح البخاري عن مجاهد: (أنه سأل ابن عباس أفي {ص} سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا هذه الآية: {أولئك الذي هدى اللّه فبهداهم اقتده} فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم، قال وهو منهم يعني داود. وقال اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة: {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} أي إذا سمعوا كلام اللّه المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة حمداً وشكراً على ما هم فيه من النعم العظيمة، والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم. قال سفيان الثوري قرأ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه سورة مريم فسجد، وقال هذا السجود، فأين البكي؟ يريد البكاء) "رواه ابن أبي حاتم وابن جرير".
الآية رقم (59 : 60)
{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا }
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام، ومن اتبعهم من القائمين بحدود اللّه وأوامره المؤدين فرائض اللّه التاركين لزواجره، ذكر أنه {خلف من بعدهم خلف} أي قرون أخر، {أضاعوا الصلاة}، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء سيلقون غياً، أي خساراً يوم القيامة، وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة ههنا، فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية، قاله محمد بن كعب القرظي والسدي واختاره ابن جرير، ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو مشهور عن الإمام أحمد، إلى تكفير تارك الصلاة للحديث: (بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة) "الحديث: أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي عن جابر بلفظ (بين الرجل وبين الشرك الكفر...)"، والحديث الآخر: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، وليس هذا محل بسط هذه المسألة. وقال الأوزاعي: إنما أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً. وقيل لابن مسعود: إن اللّه يكثر ذكر الصلاة في القرآن {الذين هم عن صلاتهم ساهون}، و{على صلاتهم دائمون}، و{على صلاتهم يحافظون}، فقال ابن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على الترك، قال: ذلك الكفر، وقال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين، وفي إفراطهن الهلكة؛ وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن، وقال الأوزاعي: قرأ عمر بن عبد العزيز: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة}، ثم قال: لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت، وقال مجاهد: ذلك عند قيام الساعة، وذهاب صالحي أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة. وقال ابن جرير عن مجاهد {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} قال: هم في هذه الأمة، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون اللّه في السماء، ولا يستحيون من الناس في الأرض. وقال كعب الأحبار: واللّه إني لأجد صفة المنافقين في كتاب اللّه عزَّ وجلَّ: شرَّابين للقهوات، ترَّاكين للصلوات، لعَّابين بالكعبات، رقَّادين على العتمات، مفرطين في الغدوات، تراكين للجماعات، قال، ثم تلا هذه الآية: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا}، وقال الحسن البصري: عطَّلوا المساجد ولزموا الضعيات. وقال أبو الأشهب: أوحى اللّه إلى داود عليه السلام: يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي، وقوله: {فسوف يلقون غيا}، قال ابن عباس: أي خسراناً، وقال قتادة شراً، وقال عبد اللّه بن مسعود {فسوف يلقون غيا} قال: وادٍ في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم. وقال الأعمش، عن زياد، عن أبي عياض في قوله {فسوف يلقون غيا} قال: وادٍ في جهنم من قيح ودم. وقوله {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات، فإن اللّه يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم، ولهذا قال: {فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا} ذلك لأنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها. وفي الحديث الآخر (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) "أخرجه ابن ماجه عن ابن مسعود والحكيم الترمذي عن أبي سعيد الخدري"ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً، وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم، وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان: {والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - إلى قوله - وكان اللّه غفورا رحيما}.
الآية رقم (61 : 63)
{ جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا . لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا . تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا }
يقول تعالى: الجنات التي يدخلها التائبون هي {جنات عدن} أي إقامة {التي وعد الرحمن عباده} بظهر الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم. وقوله: {إنه كان وعده مأتيا} تأكيداً لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن اللّه لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله {كان وعده مفعولا} أي كائناً لا محالة، وقوله ههنا {مأتيا} أي العباد صائرون إليه وسيأتونه، ومنهم من قال {مأتيا} بمعنى آتياً، لأن كل ما أتاك فقد أتيته، كما تقول العرب: أتت عليَّ خمسون سنة وأتيت على خمسين سنة كلاهما بمعنى واحد، وقوله: {لا يسمعون فيها لغوا}، أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له، كما قد يوجد في الدينا، وقوله {إلا سلاما} استثناء منقطع، كقوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قليلا سلاما سلاما}، وقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها، ولا يتغوطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة ورشهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبّحون اللّه بكرة وعيشاً) "الحديث أخرجه البخاري ومسلم ورواه أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً". وعن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعيشاً) "رواه الإمام أحمد في المسند . وقال الضحّاك عن ابن عباس {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} قال: مقادير الليل والنهار. وقال ابن جرير، عن الوليد بن أسلم قال: سألت زهير بن محمد عن قول اللّه تعالى:
{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} قال: ليس في الجنة ليل، هم في نور أبداً مقدار الليل والنهار، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب. ويعرفون مقدار النهار، برفع الحجب وبفتح الأبواب. وقال قتادة: فيها ساعتان بكرة وعشي، ليس ثم ليل ولا نهار، وإنما هو ضوء ونور. وقال مجاهد: ليس بكرة ولا عشي، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. وقوله: {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم الميطعون للّه عزَّ وجلَّ في السراء والضراء، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، وكما قال تعالى في سورة المؤمنين: {أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.
الآية رقم (64 : 65)
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا . رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا }
عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لجبرائيل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟) قال، فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} "أخرجه البخاري في باب التفسير ورواه الإمام أحمد". وقال العوفي عن ابن عباس: احتبس جبرائيل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فوجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ذلك وحزن، فأتاه جبرائيل وقال: يا محمد {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الآية. وقوله: {له ما بين أيدينا وما خلفنا}، قيل: المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا، وما خلفنا أمر الآخرة {وما بين ذلك} ما بين النفختين، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي، وقيل {ما بين أيدينا}: ما يستقبل من أمر الآخرة، {وما خلفنا} أي ما مضى من الدنيا، {وما بين ذلك} أي ما بين الدنيا والآخرة، واختاره ابن جرير، واللّه أعلم. وقوله: {وما كان ربك نسيا}، قال مجاهد والسدي: معناه ما نسيك ربك، وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}، وعن أبي الدرداء يرفعه قال: (ما أحل اللّه في كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من اللّه عافيته، فإن اللّه لم يكن لينسى شيئاً)، ثم تلا هذه الآية: {وما كان ربك نسيا} "رواه ابن أبي حاتم"، وقوله: {رب السماوات والأرض وما بينهما} أي خالق ذلك ومدبره، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه، {فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا} قال ابن عباس: هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً وهو قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم . وقال عكرمة، عن ابن عباس: ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه.
الآية رقم (66 : 70)
{ ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا . أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا . فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا . ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا . ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا }
يخبر تعالى عن الإنسان، أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، كما قال تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد}، وقال: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم}، وقال ههنا: {ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}، يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً، أفلا يعيده؟ وقد صار شيئاً، كما قال تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}، وفي الصحيح: (يقول اللّه تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره، وأما أذاه إياي فقوله: إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) "أخرجه البخاري في صحيحه"، وقوله: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة، أنه لا بدّ أن يحشرهم جميعاً، وشياطينهم الذي كانوا يعبدون من دون اللّه، {ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا}، قال ابن عباس: يعني قعوداً كقوله: {وترى كل أمة جاثية} وقال السدي في قوله {جثيا} يعني قياماً، وروي عن ابن مسعود مثله. وقوله: {ثم لننزعن من كل شيعة} يعني من كل أمة قاله مجاهد، {أيهم أشد على الرحمن عتيا} قال الثوري عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر، حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، وهو قوله: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا}، وقال قتادة: ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف، وهذا كقوله تعالى، {حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار}، وقوله: {ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا}، المراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها، وبمن يستحق تضيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة: {قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون}.
الآية رقم (71 : 72)
{ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا }
روى الإمام أحمد، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضهم يدخلونها جميعاً، ثم ينجي اللّه الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد اللّه فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعاً، وأهوى بإصبعه إلى أذنيه، وقال: صُمَّتَا إن لم أكن سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم، ثم ينجي اللّه الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً). وعن قيس ابن أبي حازم قال: كان عبد اللّه بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، قال: ما يبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال إني ذكرت قول اللّه عزَّ وجلَّ {وإن منكم إلا واردها} فلا أدري أنجو منها أم لا؟ وكان مريضاً "أخرجه عبد الرزاق". وقال ابن جرير عن أبي إسحاق: كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني، ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها، وعن الحسن البصري قال، قال رجل لأخيه: هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك، قال: فما رئي ضاحكاً حتى لحق باللّه، وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نافع بن الأزرق، فقال ابن عباس: الورود الدخول، فقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس {إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم، أنتم لها واردون} وردوا أم لا؟ وقال: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار} أوردهم أم لا؟ أمّا أنا وأنت فسندخلها، فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وما أرى اللّه مخرجك منها بتكذيبك، فضحك نافع. وقال: عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد، وهو نافع بن الأزرق. فقال له: يا ابن عباس، أرأيت قول اللّه: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا}، قال: أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟ وعن عبد اللّه بن مسعود {وإن منكم إلا واردها} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يرد الناس كلهم ثم يصدون عنها بأعمالهم) "رواه أحمد والترمذي". وقد رواه أسباط عن السدي، عن مرة عن عبد اللّه بن مسعود قال: يرد الناس جميعاً الصراط، وورودهم قيامهم حول النار، ثم يصدون عن الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجُل، حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع قدميه يمر فيتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة، عليه حسك كحسك القتاد، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقال ابن جرير، عن عبد اللّه قوله {وإن منكم إلا واردها} قال: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون اللهم سلم سلم، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما. عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بيت حفصة فقال: (لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية)، قالت حفصة: أليس اللّه يقول: {وإن منكم إلا واردها}؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ({ثم ننجي الذين اتقوا} الآية، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم( يعني الورود. وقال قتادة قوله: {وإن منكم إلا واردها} هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد. ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها، وورود المشركين أن يدخلوها، والزالون والزالات يومئذ كثير، وقد أحاط يومئذ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا اللّه سلم سلم وقال السدي، عن ابن مسعود في قوله {كان على ربك حتما مقضيا} قال: قسماً واجباً، وقال مجاهد: حتماً، قال قضاء، وقوله: {ثم ننجي الذين اتقوا} أي إذا مر الخلائق كلهم إلى النار، وسقط من سقط من الكفار، والعصاة، نجى اللّه تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، قيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلا دارت وجوههم، وهي مواضع السجود، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}.
الآية رقم (73 : 74)
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا . وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا }
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات اللّه ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان، أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك، ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم {خير مقاما وأحسن نديا} أي أحسن منازل، وأرفع دوراً، وأحسن ندياً، وهو مجتمع الرجال للحديث، أي ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً، يعنون فكيف نكون نحن بهذه المثابة على باطل؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه}، وقال قوم نوح، {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} وقال تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منَّ اللّه عليهم من بيننا أليس اللّه بأعلم بالشاكرين}؟ ولهذا قال تعالى، راداً عليهم شبهتهم: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن}: أي وكم من أمة وقرن من المكذبين، وقد أهلكناهم بكفرهم {هم أحسن أثاثا ورئيا} أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً. قال ابن عباس {خير مقاما وأحسن نديا} المقام: المنزل، والندي: المجلس، والأثاث: المتاع، والرئي: المنظر، وهو كما قال اللّه تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم} فالمقام المسكن والنعيم، والندي: المجلس، والمجمع، الذي كانوا يجتمعون فيه، وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط {وتأتون في ناديكم المنكر} والعرب تسمي المجلس النادي، وقال قتادة: لما رأوا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة، فعرض أهل الشرك ما تسمعون {أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا}، ومنهم من قال في الأثاث هو المال، ومنهم من قال الثياب، ومنهم من قال المتاع، والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري يعني الصوَر، وكذا قال مالك {أثاثا ورئيا} أكثر أموالاً وأحسن صوراً، والكل متقارب صحيح.
الآية رقم (75)
{ قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا }
يقول تعالى {قل} يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم، المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل {من كان في الضلالة} أي منا ومنكم {فليمدد له الرحمن مدا} أي فليمهله الرحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، {إما العذاب} يصيبه، و{إما الساعة} بغتة تأتيه، {فسيعلمون} حينئذ {من هو شر مكانا وأضعف جندا} في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي، قال مجاهد في قوله: {فليمدد له الرحمن مدا} فليدعه في ظيغانه، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه.
الآية رقم (76)
{ ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا }
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه، وزيادته على ما هو عليه، أخبره بزيادة المهتدين هدى، كما قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا} الآيتين. وقوله: {والباقيات الصالحات} قد تقدم تفسيرها في سورة الكهف {خير عند ربك ثوابا} أي جزاء {وخير مردا} أي عاقبة ومرداً على صاحبها. عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداّ يابساً فحط ورقة، ثم قال: (إن قول لا إله إلا اللّه واللّه أكبر وسبحان اللّه والحمد للّه تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن، هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة). قال أبو سلمة: فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال لأهللن اللّه ولأكبرن اللّه ولأسبحن اللّه، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون "رواه عبد الرزاق وظاهره أنه مرسل ولكن وقع في سنن ابن ماجه عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكره وهو حديث مرفوع".
الآية رقم (77 : 80)
{ أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا . أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا .كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا . ونرثه ما يقول ويأتينا فردا }
روى الإمام أحمد، عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً، وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه، فقال: لا واللّه لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا واللّه لا أكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثمَّ مال وولد فأعطيك، فأنزل اللّه {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا - إلى قوله - ويأتينا فردا} "أخرجه الشيخان والإمام أحمد عن خباب بن الأرت"، وفي لفظ البخاري: كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً، فجئت أتقاضاه، فذكر الحديث وقال {أم اتخذ عند الرحمن عهدا} قال: موثقاً.
وروى عبد الرزاق، عن مسروق قال، قال خباب بن الأرت: كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل، فاجتمعت لي عليه دراهم، فجئت لأتقاضاها، فقال لي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإذا بعثت كان لي مال وولد، قال: فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا} الآيات. وقال ابن عباس: إن رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل بدين، فأتوه يتقاضونه، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة فواللّه لأوتين مالاً وولداً، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فضرب اللّه مثله في القرآن فقال: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا - إلى قوله - ويأتينا فردا}، وقوله: {لأوتين مالا وولدا}، قرأ بعضهم بفتح الواو من {ولدا} وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه، وقيل: إن الولد بالضم جمع، والولد بالفتح مفرد، وهي لغة قيس، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {أطلع الغيب} إنكار على هذا القائل {لأوتين مالا وولدا} يعني يوم القيامة، أي أعلم ماله في الآخرة، حتى تألى وحلف على ذلك {أم اتخذ عند الرحمن عهدا} أم له عند اللّه عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق، وقال ابن عباس: {أم اتخذ عند الرحمن عهدا} قال: لا إله إلا اللّه فيرجو بها، وقال القرظي: شهادة أن لا إله إلا اللّه، ثم قرأ {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا}، وقوله: {كلا} هي حرف ردع لما قبلها، وتأكيد لما بعدها {سنكتب ما يقول} أي من طلبه ذلك، وحكمه بنفسه، بما يتمناه وكفره باللّه العظيم، {ونمد له من العذاب مدا} أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره باللّه في الدينا، {ونرثه ما يقول} أي من مال وولد، نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً، زيادة على الذي له في الدنيا، بل في الآخرة يسلب من الذي كان له في الدنيا، ولهذا قال تعالى: {ويأتينا فردا} أي من المال والولد، قال مجاهد {ونرثه ما يقول}: ماله وولده، وقال قتادة {ونرثه ما يقول} قال: ما عنده، وهو قوله: {لأوتين مالا وولدا} {ويأتينا فردا} لا مال له ولا ولد، وقال عبد الرحمن بن زيد {ونرثه ما يقول} قال: من جمع من الدنيا وما عمل فيها، {ويأتينا فردا} قال: فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.
الآية رقم (81 : 84)
{ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا . كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا . ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا . فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا }
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم، أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون لهم تلك الآلهة {عزا} يعتزون بها ويستنصرونها، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا، فقال {كلا سيكفرون بعبادتهم}: أي يوم القيامة {ويكونون عليهم ضدا} أي بخلاف ما ظنوا فيهم، كما قال تعالى: {وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}، وقال السدي {كلا سيكفرون بعبادتهم}: أي بعبادة الأوثان، وقوله: {ويكونون عليهم ضدا} أي بخلاف ما رجوا منهم. وقال ابن عباس {ويكونون عليهم ضدا} قال: أعواناً، قال مجاهد: عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم، وقال قتادة: قرناء في النار، يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض، وقال الضحاك {ويكونون عليهم ضدا} قال: أعداء. وقوله: {ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا} قال ابن عباس: تغويهم إغواء، وقال العوفي عنه: تحرضهم على محمد وأصحابه، وقال مجاهد: تشليهم إشلاء، وقال قتادة: تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي اللّه، وقال سفيان الثوري: تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالاً، وقال السدي: تطغيهم طيغاناً، وقال عبد الرحمن بن زيد: هذا كقوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}، وقوله: {فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا} أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم، {إنما نعد لهم عدا} أي إنما نؤخرهم لأجل معدود ومضبوط، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب اللّه ونكاله، كما قال تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا}، {إنما نملي لهم لي ليزداوا إثما}، {نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ}، {قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار}، وقال السدي: {إنما نعد لهم عدا} السنين والشهور والأيام والساعات، وقال ابن عباس: {إنما نعد لهم عدا} قال: نعد أنفاسهم في الدينا.
الآية رقم (85 : 87)
{ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا . ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا . لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا }
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فينا أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفداً إليه، والوفد هم القادمون ركباناً ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفاً إلى النار {وردا} عطاشاً قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد ، وقال ابن أبي حاتم، عن ابن مرزوق {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً، فيقول: أما تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن اللّه قد طيب ريحك وحسن وجهك. فيقول: أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} "أخرجه ابن أبي حاتم"، قال ابن عباس: ركباناً، وقال أبو هريرة {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} قال: على الإبل. وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} قال: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوساً عند علي رضي اللّه عنه، فقرأ هذه الآية {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا} قال: لا واللّه ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة "رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد: عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد".
وقوله تعالى {ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا} أي عطاشاً، {لا يملكون الشفاعة} أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض، كما قال تعالى مخبراً عنهم: {فما لنا من شافعين ولا صديق حميم}، وقوله: {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} هذا اسثناء منقطع، بمعنى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو شهادة أن لا إله إلا اللّه، والقيام بحقها. قال ابن عباس: العهد شهادة أن لا إله إلا اللّه ، ويبرأ إلى اللّه من الحول والقوة ولا يرجو إلا اللّه عزّ وجلّ. وقال ابن أبي حاتم، عن الأسود بن يزيد، قال: قرأ عبد اللّه بن مسعود هذه الآية {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} ثم قال: اتخذوا عند اللّه عهداً، فإن اللّه يقول القيامة: من كان له عند اللّه عهد فليقم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن فعلمنا، قال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد. قال المسعودي: وكان يلحق بهن: خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك.
الآية رقم (88 : 95)
{ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا . لقد جئتم شيئا إدا . تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولدا . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا . إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم آتيه يوم القيامة فردا }
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام، وذكر خلقه من مريم بلا أب، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً فقال: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم} أي في قولكم، هذا {شيئا إدا}، قال ابن عباس: أي عظيماً، وقوله: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجَرَة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً، لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلا هو، قال ابن جرير، عن ابن عباس في قوله: {تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا} قال: إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة اللّه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر اللّه ذنوب الموحدين، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا اللّه، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة)، فقالوا: يا رسول اللّه فمن قالها في صحته؟ قال: (تلك أوجب وأوجب)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعا شهادة أن لا إله إلا اللّه في الكفة الأخرى لرجحت بهن) "هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة واللّه أعلم"، وقال الضحاك {تكاد السماوات يتفطرن منه} أي يتشققن فرقاً من عظمة اللّه. وقال عبد الرحمن بن زيد {وتنشق الأرض} أي غضباً له عزَّ وجلَّ، {وتخر الجبال هدا}، قال ابن عباس: هدماً، وقال سعيد بن جبير: هداً ينكسر بعضها على بعض متتابعات. عن عون بن عبد اللّه: قال إن الجبل لينادي باسمه: يا فلان هل مر بك اليوم ذكر اللّه عزَّ وجلَّ؟ فيقول: نعم ويستبشر، قال عون: لهي للخير أسمع، أفيسمعن الزور والباطل، إذا قيل ولا يسمعن غيره؟ ثم قرأ {تكاد السماوات يتفطرن منه} "أخرجه ابن أبي حاتم"الآية وعن أبي موسى رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من اللّه أن يشرك به ويُجعل له ولد، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم) أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ: (إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم). وقوله: {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته، لأنه لا كفء له من خلقه، لأن جميع الخلائق عبيد له، ولهذا قال: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا} أي قد علم عددهم، منذ خلقهم إلى يوم القيامة، ذكرهم وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم، {وكلهم
آتيه يوم القيامة فردا} أي لا ناصر ولا مجير إلا اللّه وحده لا شريك له، فيحكم في خلقه بما يشاء، هو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحداً.
الآية رقم (96 : 98)
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا . فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا . وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا }
يخبر تعالى: أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير وجه فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه - قال - فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه يحب فلاناً فأحبوه، قال فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن اللّه إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن اللّه يبغض فلاناً فأبغضوه، قال، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض) "أخرجه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ لأحمد". وعن ثوبان رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن العبد ليلتمس مرضاة اللّه عزَّ وجلَّ، فلا يزال كذلك، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ لجبريل إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة اللّه على فلان، ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض "أخرجه الإمام أحمد"وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذا أحب اللّه عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول اللّه عزَّ وجلَّ: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} "ورواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح"، وقال ابن عباس: {سيجعل لهم الرحمن ودا} قال: حباً، وقال مجاهد عنه {سيجعل لهم الرحمن ودا} قال: محبة في الناس في الدينا. وقال سعيد بن جبير: يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين، وقال العوفي، عن ابن عباس: الود من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن واللسان الصادق، وقال قتادة {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} إي واللّه في قلوب أهل الإيمان، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم، وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان رضي اللّه عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه اللّه عزَّ وجلَّ رداء عمله.
وقوله تعالى: {فإنما يسرناه} يعني القرآن {بلسانك}: أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل، {لتبشر به المتقين} أي المستجيبين للّه المصدقين لرسوله، {وتنذر به قوما لدا}: أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل، وقال مجاهد {قوما لدا} لا يستقيمون، وقال الثوري، عن أبي صالح {وتنذر به قوما لدا}: عوجاً عن الحق. وقال الضحّاك: الألد الخصيم، وقال القرظي: الألد الكذّاب، وقال الحسن البصري {قوما لدا} صماً، وقال غيره: صم آذان القلوب، وقال ابن عباس {قوما لدا}: فجاراً، وكذا روي عن مجاهد، وقال ابن زيد: الألد الظلوم، وقرأ قوله تعالى: {وهو ألد الخصام}، وقوله: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن}: أي من أمة كفروا بآيات اللّه وكذبوا رسله {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا}: أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً. قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة: يعني صوتاً، وقال الحسن وقتادة: هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً والركز في أصل اللغة: هو الصوت الخفي، قال الشاعر:
فتوجست ركز الأنيس فراعها * عن ظهر غيب والأنيس سقامها.